الرجوع الى صفحة الاستقبال

الرجوع الى صفحة المقالات

حوارمع حسن المسعود

في عام (1969م) حمل حقيبته مبتهجاً بتحقيق حلمه الذي طالما انتظره، طائراً إلى باريس، حاملاً في قلبه وروحه ذرات رمال مدينة النجف الساخنة.كلما أردت معه الحوار رد مسرعاً: معذرة أنا مشغول بإعداد حقيبتي للسفر إلى صحراء موريتانيا وصحراء المغرب.خطاط عراقي اكتسب شهرة عالمية، يجوب العالم والصحارى ليعلم الخط العربي. لكنه ليس كأي خط مألوف اعتدنا رؤيته، إن يده ترفع الفرشاة لتعبر عن إحساس لبيت شعر أو نغمة موسيقية، هذا ما يميز الفنان الخطاط "حسن المسعود" عن غيره. هذا الفنان الذي يفتح مرسمه في نهاية كل شهر للزوار كي يمتعوا أنظارهم بلوحاته. لن أطيل عليكم الحديث عنه، ولنتعرف إليه جميعاً من خلال الحوار الذي أجريته معه.

** أهلا بك في موقع الكاتب العراقي، وهو ليس غريباً عنك، فأنت أيضا عضو في مؤسسة "تراي" ولك موقع فرعي على موقع الفنان العراقي الذي تعرفتُ على أعمالك وكتاباتك من خلاله.لنبدأ إذن من النجف، حدثني عن البداية، أي الجذور...

النجف كما عرفتها صغيراً مدينة مغمورة بالضوء الساطع والدفء المستمر الذي يرتفع إلى حرارة لا تطاق في الصيف.مدينة محاطة بالصحراء والفضاء، فضاء واسع ولا نهائي، ولم يكن لنا نحن الصغار آنذاك فضاء الحرية، بل على العكس كان يبدو هذا الفراغ كجدار من النور لا يُسمح لنا تخطيه، كنا في سجن ذو حدود وهمية ونسمع من الكبار قصصاًً غريبة ومدهشة عن السراب والعطش، حكايات عن الحيوانات الخارقة والمميتة للإنسان.
في وسط المدينة كان المعمار قديماً جداً؛ حيث الأزقة الضيقة والبيوت المتماسكة ببعضها البعض، بيوت ذات أبواب عتيقة، والتي تبدو وكأنها تقص تاريخ حياتها عبر الآثار التي تركتها أيدي البشر الذين ولدوا وماتوا فيها عبر القرون، وكلما توغلنا في الدروب الضيقة القليلة البشر، نُفاجأ هنا وهناك بسوق ممتلئ بالناس الذين يأتون للتزود بالمواد الغذائية، أو الطلب من هذا المهني أو ذاك بعمل حاجة ما، كان الفن اليدوي متداولاً عبر عشرات المهن القديمة.

Description : http://www.draw-art.com/imgcache/472.imgcache.jpg

قد لا يختلف كثيراً الزمن الذي كنت فيه في النجف في الخمسينيات والستينيات عما كانت عليه الحياة قبل قرون عديدة.لم نكن نعرف العالم الصناعي ولا منتجاته، كانت الحياة سهلة وبسيطة، ومن الناحية المهنية والفنية كان الفن معاشاً، المهنيون أمام دكاكينهم يفترشون الأرض بكل مكان، ونرى ذلك بوضوح أيام الاحتفالات المتعددة للأعياد أو الذكريات المأساوية.حيث كان الكل يشارك في هذه الاحتفالات، كل محلة، كل دكان، كل فنان ومهني، بالطبع لم يكن فنانونا من حملة الدبلومات العالية إلا ما ندر.
وهكذا، فإن مخيلتي تعج بما شاهدته وسمعته صغيراً، كما أتذكر أيضا الهدوء والصفاء اللذين يعمان الأزقة الضيقة عندما كنا نتغلغل فيها.
اعتقد أن قاعدتي الفنية بنيت على هذه الأشياء المرئية والمسموعة، تلك الصور التي أحسستها صغيراً تلح علي اليوم لتوضيحها ومقارنتها مع العالم الذي أعيش فيه اليوم.
على عكس الضوء الغامر في النهار في النجف، يكون غروب الشمس بداية غرق المدينة بالنور الأسود، ولا أقول باللون الأسود لأن النجوم هنا وهناك تضئ الجدران القديمة، وتحول الظلام إلى نور، هذه الجدران التي عُملت كلها بيد الإنسان، كما يعمل الفخاري أوانيه من الطين، جدران لا يشابه أحدها الآخر، ومن جدار إلى جدار، ومن خلال الشبابيك وشبكاتها الحديدية نرى ضوء الفوانيس الخافتة، تبعث بضوئها البرتقالي كالحلى الذهبية.
ولمن يعرف قراءة وتحسس هذه اللوحات الجدارية فانه يستطيع تخيل مدى ثراء هذه البيوت القديمة بالشعر والفن، مع الأسف، أعتقد اليوم بأننا أضعنا هذه الأشياء؛ لأننا نقلد في البناء الأساليب ذات التقنية السريعة، ولم يعد لنا حاجة بالمهنيين لأننا نستورد كل الحاجيات من الخارج، وليذهب المهنيون إلى الجحيم.
من المؤكد أن هنالك في النجف مساوئ وفقر وظلم، ولكني أريد هنا أن أتكلم عن المكونات الفنية الأولى التي صادفتها في السنوات الأولى من حياتي.
العلاقات الاجتماعية المتينة، والمحبة العائلية أيضاً، ًلها دور مهم في تكوين النظرات الأخلاقية في الوجود.صور محفورة في الذاكرة كالنقش في الحجر، وأرجو أن لا يبدو لكِ أن عالمنا هذا كان صغيراً وضيقاً.فإن وسط المدينة السوق الكبير الذي يسلكه جمهور غفير من أماكن متعددة في العالم إلى جامع الإمام علي؛ يجعلنا نعرف أن شعوباً أخرى توجد في العالم.
خارج السور القديم تسكن عوائل من البدو الرحل وهنا نسمع أصوات باعة الجمال في أسواق مبتكرة على رمال الصحراء.
كل هذه الصور والتي تعود لعالم اختفى إلى الأبد، تبقى عندي كذكريات تغذي أعمالي الفنية، هياكل من الخيال ترقد في الذهن تصقلها تجربة الغربة، والالتقاء بالثقافة الغربية، والاختلاط بالمجتمع الأوربي. كذلك يجب ألا أنسى 8 سنوات من العيش في بغداد، وهي سنوات وسيطة بين النجف وباريس.

** يبدو أننا عبثاً تركنا الوطن منذ عشرات السنين، أراك تتحدث عن صور مدينة النجف بصيغة الحاضر، وهذا ما لمحته.عندنا جميعاً عندما نتحدث عن الوطن، من خلال ذلك اكتشفت تشبثك بصحراء المغرب وموريتانيا، هل التشابه يدعوك إلى السفر إلى هناك تعويضاً عن أرض النجف؟

نعم إحساسكِ في مكانه.منذ عشر سنوات، وأنا دائم السفر إلى تلك الصحارى، فصحراء المغرب تذكرني بالنجف: الشمس الساطعة، بساطة الحياة، والأفق البعيد خلف بحر من الرمال الذهبية، النور يشع في الفضاء، خلال الطريق أشعر وكأنني وُلدت من جديد، وأنني أرى أول يوم في الحياة.
نترك خلفنا الحضارة تدريجياً مروراً بالقرى ذات الألوان الترابية، وحتى الفراغ فهو إمتلاء من نوع آخر، ننام على الرمال، ونرقب النجوم كما في النجف، والموريتانيون يشبهون أولئك العرب قبل ألف سنة في القرى الصحراوية التي نمر بها، الكثبان الرملية الممتدة بلا نهايةـ زمن صافٍ بعيداً عن الحضارة، أما النجف ستظل حاضرة إلى الأبد.

**بالرغم من دراسة الفن التشكيلي، وأعني به الرسم، ظل الحرف مهيمناًً على اللوحة التشكيلية، وحتى بقيت محتفظاًً باسمك كخطاط؟

إنك تعرفين أن عالم الفن هو عالم غامض، وأن الفنان يبحث طيلة حياته عن شيء غير ملموس كما هو الحلم، ويكمن هذا الحلم في ذهنه كرؤى تأتي وتذهب كالشرارة التي لا تلبث أن تنطفئ حال ولادتها.
يمكنني أن أشبه الفنان كمن يريد الوصول إلى جزيرة يتخيل أن الحقيقة الفنية تكمن فيها، وعند اقترابه من الجزيرة ورؤيته لشاطئها، تدفع الرياح العاتية مركبه الصغير نحو الخلف وتبعده، فيحاول الكرة من جديد عند هدوء الرياح ولكن العواصف لا تلبث أن ترجعه مرة أخرى.
إن رسم أو خط (هنا نتكلم عن الخط) هذه المحاولات هي الأمل في الوصول، والمعاناة في مقاومة الرياح هي هموم الفنان، وهي الفن نفسها.الطريق أحسن من الهدف في هذه الحالات لأننا لا نعرف بالضبط ما هو الهدف في الفن، إنما رؤى وتصورات لما عليه أن يكون.الهدف في الفن وهمي، وهو من تخيلات الفنان، والوصول إليه والتعرف إليه إنما يعني التوقف عن الإنتاج الفني.
العملية الفنية تتم في لا وعي الإنسان، وربما تفرض نفسها على الفنان، فيجد نفسه أمام لغز يحير في حله، وحيرته هنا هي أثمن شيء لأنها قد تقوده لمعرفة جديدة.


Description : http://www.draw-art.com/imgcache/473.imgcache.jpg

** أفهم من كلامك أنك بالرغم من ممارستك الرسم وجدت ذاتك أولاً وأخيراً في الحرف، وأعني به الخط بالطبع؟

نعم أمضيت 5 سنوات في رسم الأشخاص وتلوينها ـ داخل المدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس ـ ولكني وجدت نفسي أخيراً في طريق مسدود، ما عملته من لوحات على القماش والألوان الزيتية لا تلبي مشاعري الداخلية بل بدت لي أنها تجربة سطحية (طبعاً أتكلم عن نفسي وتجربتي وشخصيتي ولا يعني أبداً نظرة عامة عن الفن)، والخط كان أقوى وأكثر إقناعاً من عدة اتجاهات.

** ألا تعتقد أن الخط رباط وثيق كالحبل السري لم تستطع قطعه بينك وبين الوطن الأم؟

ربما أن اتجاهي للخط العربي وسط باريس هو بهدف إيجاد وطن ضيعته، فأصبح الخط وطني ومن خلاله أتعامل مع همومي الجوهرية، إنه ربما ذلك القارب الذي ذكرته لك منذ بضعة دقائق، إنه الأمل بالخلاص والنجاة رغم العواصف.
ربما يعود ذلك أيضاً إلى الجو الذي أعيشه، فمنذ دخولي باريس في (1969) قال لي الطلبة المتمردون في أحداث (1968) في معهد الفنون (البوزار): "أنت جئت تبحث عن فن تركناه نحن ونـُدينه الآن، لقد اكتشفنا أن هذا الفن لم يعد نافعاً، نحن فقدنا الكثير بسرعتنا الصناعية، وأنتم سكان العالم القديم المتباطئون لازلتم في مجال الفن تملكون أشياء كثيرة، الخط الذي تمارسه مثلاً فيه الكثير من الإجابات على أسئلة الإنسان اليوم، عرّفنا به، قرّبنا إليه فربما ذلك يكون أنفع لك ولنا".
ترين أن الأشياء ليست سهلة، كنت في ذلك الزمن كمن يسير في نفق مظلم لا أعرف أين المخرج، وكنت أريد أن أكون فناناً تشكيلياً مثلهم، وإذا بهم يدخلون الشك في الطريق الذي رسمته.
في ذلك الوقت كنت أعي أن الخط الذي أمارسه هو تقليد لأسلوب القرن التاسع عشر، وأنه لا يعبّر عن تطلعاتي في باريس، ولا أملك الوقت لممارسته على قواعده القديمة، وكنت مقتنعاً ًبأن الخط تطور في كل قرن منذ القرن الثامن الميلادي، ولكن منذ القرن التاسع عشر لم تحدث أية إضافات مهمة.

** إذن كيف استطعت تطوير الخط؟

كل محاولاتي الاولى كانت تبدو لي فقيرة آنذاك.بعد ذلك درست كل ما تقع عليه عيني من الخطوط منذ الخط المصري القديم، مروراً بتاريخ وأساليب الخط العربي، وحتى الخط المستعمل عند الحضارات الأخرى في زماننا الحالي، تعرفت جيداً على خطوط الشعوب قرب البحر الأبيض المتوسط، ولكن الأكثر تأثيراً عليّ كانت الخطوط الصينية واليابانية، فعندهم جرة حرف صغيرة تنطوي على إحساس الخطاط بتلك اللحظة.

** إذن هذا يفْرُق مع الخطاط العربي، ولكن بمَ وكيف؟

عندك الحق في أول وهلة؛ ولكن لو تعمّقنا في الرؤية بأعمال الخطاطين المسلمين ابتداءً من القرن السادس عشر؛ أي بداية اهتمام الأتراك بالخط لوجدنا أن قواعد الخط تفرض إطاعة الأقدمين، وهنا كانت بداية تحول الخط إلى فن رسمي، أي يمكنك أن ترين خط البسملة بأسلوب الثلث لخطاط في أول القرن التاسع عشر هي نفسها وتقريبا مائة بالمائة لخطاط آخر في نهاية نفس القرن، وهكذا فإن الكثير من الخطاطين فيما بعد يقعون في تقليد ساذج للتكوينات التي سبقتهم، بينما يسمح الخط الصيني بأن يضيف الخطاط في كل مرة إحساس اللحظة المُعاشة. أضيفي لذلك أنهم يخطون بسرعة البرق مما لم يعد لديهم الوقت للتفكير، ويتركون الحدس يقود اليد، فيكون الخط فناً ًوتعبيراً للجسد يكتشف الخطاط نفسه من خلاله، ويذكرني الآن قول بسيط لخطاط صيني ولكنه على غاية في الأهمية حيث يقول: "عندما تكون الفكرة بنهاية الفرشاة، فلا داعي للذهاب إلى نهاية الفكرة".
وهكذا، وعبر خط كلمات قليلة يمكننا أن نرى وندرك مدى جرأة وشجاعة الخطاط الصيني، ومدى ثراء إحساساته وعمقها أو على العكس تباطؤه، وفقر حروفه.
إن اتصالي المستمر منذ ربع قرن مع الخطاطين الصينيين واليابانيين فتح لي آفاقاً جديدة، ولا أنكر أهمية وعطاء الفن الغربي لي أيضاً، ففي الأساليب التجريدية وجدتهم يقتربون من بعض اهتماماتي، وأنني مكون من كل ما رأيته كما قال الفنان (ماتيس). وهكذا يا سيدتي احتفظت بلقب (خطاط)، نعم؛ فلأني وجدت في الخط إمكانيات نبيلة يمكنها الاستمرار في العصر الحديث، ثم إنني أشعر هنا وسط جمهرة الفنانين من كل أنحاء العالم أنه يمكنني أن أتبوأ مكاناً له علاقة بجذوري الثقافية، ونحن في زمن العولمة يتفق الكثيرون على الحفاظ على الاختلاف المتميز في فنون الشعوب. خطوطي نابعة من جذوري الثقافية؛ ولكنها منفتحة على العالم، وأستلهم من أدب الإنسانية النصوص التي أخطها.


Description : http://www.draw-art.com/imgcache/474.imgcache.jpg

* *من خلال تجربتي الشخصية، وحينما رأيت إذا كان بإمكاني تسميتها "بلوحات خطك" لأنها لم تكن بالنسبة لي مجرد خط، وإنما لوحات تشكيلية ذات إحساس عالٍ، وبقيت أتأملها لوقت طويل، حدث معي ذلك في معرض للخط الياباني أيضاً.سؤالي الآن: هل يتقبل الذوق الشرقي وبالذات العربي هذا الخروج عن المألوف في فن الخط؟

أقول لك بصراحة أنني عندما اخط لا أفكر بالذوق الشرقي ولا بالذوق الغربي، أما "المألوف" فهو الأمس، بينما أنا أتطلع إلى الغد.
لقد تخلفنا كثيراً ونحن ننظر إلى الوراء، وحتى لو ننظر بعمق إلى الخلف، وليس بسطحية وسذاجة لنرى أن كل من نحبهم من الشعراء والخطاطين كانت حياتهم كالجحيم، والكثير منهم وهب حياته ثمناً لإبداعه الفني.ومن الأكيد أن كل نتاج فني جديد سيلاقي المعارضة لأنه يقلق، لأنه غير "المألوف" الذي تعود عليه الجمهور الواسع.
في الخط العربي ما هو "مألوف" اليوم عمل في الزمن القديم، عندما كان الخطاط "الحافظ عثمان" يتنقل بعربة يجرها حصان، كم من مرة أوقف عربته في الشارع ليصلح خطوط تلاميذه الذين كان عندهم عذر في الغياب، أنا أتنقل اليوم بعربات أسرع بمائة مرة منه، العالم تغير، رغم حبي للحصان ولكن لا يمكنني اليوم أن أتنقل عليه في شوارع من الإسفلت وما بين آلاف السيارات.
وهكذا فإن الخط لابد أن يتغير أيضاً اليوم، وغداً ربما ستكون خطوطي أيضاً "المألوف"، وهذه الخطوط بدورها سوف تنتظر من يتخطاها، وهكذا ...
ولحسن الحظ أنه في كل عصر وجد أناس ينظرون لما هو غير "مألوف".هنالك أذواق متعددة ما بين الملايين من الناس، وتيارات متعددة من الفكر والإحساس، لابد من أن تتعدد الاتجاهات الفنية بكل حرية، لابد أن نكافح من أجل التنوع والخروج عما هو مألوف.أحياناً، سيتطلب بعض الإنتاج الفني سنوات طويلة للبعض لتقبله، وآخرون سيدخلونه مباشرة بعفوية وببساطة.

** كلامك هذا ذكرني عندما تعلمنا النقد، فرسخت في ذهني عبارة كما أتذكر لـ (ماو تسي تونغ): "وكل قديم في عصره حديث"، برأيك أين تكمن المشكلة في التطوير؟

المشكلة الحقيقية في مجتمعاتنا هو انعدام الحوار الثقافي والفني، وقد نجد من هو مثقفاً في الشعر، ولا يعرف مقامات الموسيقى، ومن يعرف المقامات قد لا يعرف أساليب الخط.والإمكانيات للّقاء والتفاهم لا تتوفر أبداً في أكثر المدن.
وبسبب توفر كثرة المصادر عن الخط القديم تتوقف المعرفة عنه لدى البعض عند هذا الحد.كما أن كثرة توفر المصادر عن الفن الغربي يدفع البعض للاعتقاد بأنه الأسلوب الحديث وحده ولابد من تقليده.وهكذا يصبح "المألوف" ما هو القديم من جهة والفن الغربي من جهة أخرى.إن الخط العربي القديم يعبر عن عصر إختفى ولابد من تطويره، وتجربة الفن الغربي تعكس مجتمع الغرب وظروفه التي قد لن تكن نفسها ظروفنا.
وكما استلهم الأدباء والفنانون الغربيون الكثير من الشرق، يمكننا أيضا أن نستلهم أشياء من الفن الغربي ولكن بعد هضمها.
المطلوب اليوم أن يكثر إنتاج الكتب والصحف ومواقع الانترنت عن الفن العربي، لكي نتعرف على الفنانين ونتاجاتهم.بلداننا غنية تملك كل شيء لذلك، ولكنها فقيرة روحياً.فالثراء الحقيقي ليس بكثرة الامتلاك، إنما العيش باتساع كما قال (غاندي).
"المألوف" هو ضمان أمان للمجتمعات المتخلفة الراكدة، لكنما كسر المألوف ودفعه للحركة هو سمة المجتمعات المتطورة.وكما يطمئننا (طاغور): "عندما تغلقون بابكم أمام كل الأخطاء؛ فإن الحقيقة تبقى خارجاً".أفهم من هذا إذا أردت معرفة الحقيقة؛ فلابد إن نفتح بابنا لكل التجارب.

** لك تجربة فريدة من نوعها وهي استلهام الخط من الشعر حتى إنك ذهبت بعيداً واستلهمت من الصوت - أخص بذلك الموسيقى- أرجو توضيح ذلك بتركيز ليفهم القارئ والمشاهد سر هذا العمل؟

علاقة الخط بالشعر قديمة ولازالت.لدينا نماذج باقية منذ قرون، كشعر "ابن زمرك" المنحوت في تكوينات على جدران قصر "الحمراء" بغرناطة، وقصيدة "البويصري" في قصر "طوب كبي" باسطنبول.
إن ما أعمله اليوم هو استخدام الشعر في الخط بشكل واسع وبخطوط حديثة؛ أي لا تشابه الأساليب القديمة.أحياناً اخط أشعاراً من الشرق والغرب تبدو وكأنها كتبت من قبل شخص واحد، أي هنالك اتفاق على المضمون من قبل شعراء لم يلتقوا فيما بينهم، وفي أوقات كثيرة يساعدني الشعر عندما يشح الإلهام.
الشعر هو أيضاً موسيقى الألفاظ، وقد عملت لسنوات على الموسيقى، وتأثيرها على حركاتي الخطية، فأضع نفسي في التهيؤ للاستلام وأسمع الموسيقى، أترك يدي ترسم الأصوات، تصعد وتهبط حسب الحركات الموسيقية المسموعة.واكتب الكلمات التي أريدها، فيطول حرف أكثر من المعتاد ويتبعه آخر ثم تقصر بعض الحروف، وفي النهاية أجد أشكالاً للكلمات لم أعرفها سابقاً.أشكال متناغمة وكأنها ترقص حول محور، وحسب نوعية الموسيقى تكون نوعية الخطوط: مرحة خفيفة أو حزينة ثقيلة.

** وهل عملت مع موسيقيين عراقيين وغيرهم؟

نعم عملت مع الموسيقي والمغني "فوزي العائدي" لمدة ثلاثة عشر عاماً بشكل مستمر.كما ساهمت في حفلات مع فرقة رقص كلاسيكية عالمية، (كارولين كاريسون) والموسيقي التركي (قدسي اركنر).أولا بمهرجان اسطنبول ثم في قاعة جميلة وسط روما وأخيرا بعدة مدن فرنسية. خلال العرض توجه الكاميرات على يدي لتنقل على شاشة كبيرة الخطوط المصاحبة للموسيقى والرقص.

** الغربة والحنين ملازمان لنا فنجدهما متجسدتين في الكتابة بشكل خاص.كيف يمكن للخطاط أن يعبر عنهما في حروفه؟


الغربة أحياناً تكون ثقيلة وخانقة، ويتضاءل الفضاء المحيط بنا ويتقلص فنشعر بالألم، الحروف آنذاك يمكنها أيضاً أن تأخذ حبراً كثيفاً وثقيلاً تفرض البطء القاتل، وآلة الخط تكون عريضة جداً ولكن على ورقة صغيرة، حيث لا مكان لكتابة كل الحروف، فيصعد حرف على آخر وتتداخل الكلمات، ولم يعد بالأمكان القراءة، وهكذا تبدو صورة الغربة مرفوضة ولا يمكن فهمها أبداً.وان تطول الغربة تصبح تساؤلا ً مستمراً، فتكون كما قال الشاعر الكبير "ابن حمديس":
مالي أطيل عن الديار تغرباً أفبالتغرب كان طالع مولدي؟
أما خط الحنين، فان الحروف ستكون شبيهة لما يريده القلب، ولا أستطع وصفها، وهنا من الصعب الكلام حقاً، لهذا أترك الشعراء يجيبون بالنيابة عني:
يا غائبين وفي قلبي أشاهدهم
كما قال "البهاء زهير".
أو كما قال الشاعر (انطوان متشادو):
كانت في قلبي شوكة تؤلمني، وفي أحد الأيام انتزعتها فلم أعد أحس بقلبي.

** هل تعتقد أنه يجب التوجه إلى المشاهد الغربي والشرقي بنفس الأسلوب، أي بملامح شرقية بحتة وبهذا نكون قد أدينا مهمتنا في الوقت نفسه؟

كما تكلمت في بداية هذا الحوار أن عالم الفن غامض، وتكون منابعه في اللاوعي، لذلك من غير الممكن التفكير عقلياً بكيفية الاتجاه، والأخذ بالاعتبار إلى أي جمهور سنتوجه بعملنا.المهم أن يكون الفنان مخلصاً مع نفسه.وكل فنان يأتي بعالم جديد وغير منتظر سيكون فنه عطاء للإنسانية، العملية الفنية أحياناً تمزق الفنان إذ يرى أشياء بمخيلته ولكن لا تولد على اللوحة، أجيب باختصار: إنه لا توجد قوانين في هذا المجال.والمجال واسع أمام كل فنان ليترك إحساساته تقود عمله الفني.

**تجربتك الطويلة وعشقك للخط، هل يمكننا أن نعرف من سيرثها في العائلة؟

ابنتي "نادية" في الثلاثين من عمرها، وبالرغم من حبها للخط اتجهت للأدب واللغات وهي الآن مُدرسة في مدرسة متوسطة، تدرّس اللغات الفرنسية واللاتينية والإغريقية، كما أنها درست في (السوربون) الأدب العربي.لكن ابنتها (أليانور) تحب الخط.

** هل برأيك أدى ويؤدي الفنانون العراقيون في الخارج مهمتهم، وخاصة في مثل ظرفنا العصيب لنقل رؤيتهم ومعاناتهم التي هي جزء من معاناة شعبنا الجريح؟

هناك فنان له القدرة في أسلوبه على تغطية الأحداث اليومية كما الصحفي، وآخر يحتاج لزمن طويل لرسم جوهر الأحداث وإعطائها عالمية أوسع.نحن بحاجة إلى إنتاج الكل، في مجال العمل الفني لا توجد حدود واضحة للحقيقة ويمكن أن يتجول الفنان مابين عدة تيارات بهدف الوصول إلى الحقيقة، أعتقد أن الكثير من الفنانين العراقيين في الخارج تنقصهم وسائل التعريف بأعمالهم.فكم من فنان يمضي وقته في العمل الفني ولديه أعمال لم يرها أحد، ولكن حتماً سيأتي اليوم الذي سترى فيه كل هذه الأعمال، فإن بناء العراق الجديد سيتطلب زمناًً وكل عطاء فني وأدبي ومهما كان سيكون مساهماً في تطوير مجتمعنا.أضرب لك مثلاً لاثنين من الفنانين الذين عاشوا في جنوب فرنسا أثناء الاحتلال النازي، الأول (سوتين) ولوحاته تمثل الرعب والإرهاب في ذلك الزمن، الألوان وطريقة جرات الفرشاة والوجوه المتهرئة تجعلنا نشعر بالقرف من النازية، والفنان الثاني هو (ماتيس) كان على العكس، بدلاً من أن يرسم الألم، رسم العالم الذي أراده أن يكون: عالم الصفاء، والألوان الزاهية، وضوء الربيع الدائم.اليوم كلا الفنانين يبتوءان مكانا محترماً في قلوب المشاهدين، الأول وكأنه يقول لنا: علينا ألا ننسى.والثاني يؤكد لنا أن الربيع حتماً آت.أما نحن فما علينا إلا العمل بقدراتنا الضئيلة، قدرات الأدب والفن والتي يمكن لها في يوم من الأيام أن تضيء الطريق لشعبنا الجريح المتعب.

** عالم الإنترنت العجيب قرب ما بيننا جميعاً في كل أصقاع الأرض، حدثني عن تجربتك معه، ولأننا من خلاله الآن نعرّف أبناء شعبنا بالدرجة الأولى بفنان بعيد المسافة عنهم؛ ولكنه مازال يتمسك بجذوره التي تشده إليهم بالحرف واللون.

عندما جئت إلى باريس في بداية السبعينات ساعدت الكثير من الجمعيات للعمال المهاجرين بفرنسا في مجال الخط وعمل ملصقاتهم، ومع مرور السنين تكاثر عدد الأصدقاء فيما بينهم.وفي عام (1997) عرض علي صديق مغربي أن يعمل لي موقعاً ًعلى الانترنت.ولم أستطع أبداً تخيل ما يشرحه لي من فوائد الانترنت، إذ لا يمكن تصور ذلك في تلك الفترة.ولكنه ألح علي قائلاً انه ليس بصدد إرجاع الجميل، وإنما يرى أنه من الضرورة التعريف بعملي الفني لصالح الجالية المغتربة هنا، وللالتقاء مع الجمهور العربي والعالمي.وهكذا عمل صفحات جميلة تتضمن نصوص عن عملي، وحوالي الثلاثين خطاً، كذلك دفتر زوار أدهشتني آنذاك كثرة الرسائل التي نستلمها من كل مكان.
وبعد ذلك عرض علي آخرون عمل مواقع أخرى، وانتشرت أعمال كثيرة لي على الانترنت.ومنها في موقع "الفنان العراقي" الذي اعتبره من الأعمال الثقافية المهمة للفنانين العراقيين في الخارج، واللقاء مع الداخل ولا أكتفي من الشكر لكم في كل مناسبة ممكنة.

** نحن نشكرك جزيل الشكر ونتمنى لك الصحة، ومزيداً من الإبداع، وكل ما أتمناه أن تلتقي بشعبنا على أرض العراق، وليطلعوا على كتب خطوطك الرائعة ولكن بنص عربي. بالطبع يمكن التعرف أكثر على تقنية العمل من خلال كتاباتك عن تجربتك الفريدة في موقع "الفنان العراقي".
حوار : اعتقال الطائي Description : http://www.draw-art.com/imgcache/475.imgcache.gifموقع الكاتب العراقي

لمواصلة الموضوع بشكل اوسع لابد من الرجوع الى هذين الكتابين

Désir d'envol
Hassan Massoudy
Edition Albin Michel – Paris

الكتاب

تأليف : حسن المسعود
يحتوي هذا الكتاب على 120 لوحة خطية. نصف بالاساليب القديمة ونصف بأسلوب حديث وبالالوان
كما يحتوي الكتاب على نصوص نظرية كثيرة عن الخط العربي الحديث باللغتين العربية والفرنسية
208 صفحة وبقياس 33 في 25 سنتمتر

   

Calligraphie Arabe Vivante
Hassan Massoudy
Edition Flammarion – Paris

الكتاب

تأليف حسن المسعود
يحتوي على دراسة عن الخط العربي القديم باساليبه المتعددة. وكيفية خطها وتحليل قواعدها الجمالية. مع اكثر من 200 صورة للمعالم المعمارية المزينة بالخطوط وكذلك صور خطوط في لوحات وكتب وحاجيات متعددة. اكثرها تنشر لأول مرة
كما يحتوي على نصوص نظرية عن الخط العربي باللغتين العربية والفرنسية ومنذ عام 1981 يعاد نشرهذا الكتاب بدون توقف
176 صفحة وبقياس 32 في 24 سنتمتر

الرجوع الى صفحة الاستقبال

الرجوع الى صفحة المقالات