القلم والخط والصفاء
بقلم حسن المسعود
 

المقصود بكلمة ـ قلم ـ هناهوالقصبة المبرية للكتابة، وليس ما هو شائع اليوم كقلم الرصاص وقلم الحبروالقلم الجاف. كان قلم القصب الآلة الاكثر استعمالا للكتابة منذ الحضارة المصرية القديمة، ولحد بداية القرن العشرين.
ولايمكن مقارنة القلم القديم بالقلم الحديث. فأن قلم القصب كان في الماضي محاطا ً بهالة من القدسية والاحترام. كهذا الوصف:
أقلام تختلس بلطفها أحلام، صافية الجواهر، زاهية الأزاهر، لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف، طويلة الأنابيب،  تسلب القلوب بحسن الأساليب،  تدهش الناظر،  وتحجل العامل ولا ترض بامتطاء غير الأنامل
                                              ابن الحبيب الحلبي

وقد يتساءل البعض عن الهدف من الكتابة عن القلم والذي لم يعد يستعمله إلا القلائل من الخطاطين.
للقلم فوائد كثيرة للجسم والفكروالإحساس تجعله آلة فنية، كالآلة الموسيقية. سوى أننا إزاء آلة للكتابة، وكل إنسان يحتاج للكتابة، والقصب متوفر بكثرة وبشكل مجاني في ضفاف البحار والأنهار وداخل الأهوار. وكما تعطى دروس في الموسيقى والرسم في المدارس فيمكن إعطاء دروس خط بالقلم، لمدة ساعة او ساعتين في الاسبوع. فوائدها: إضفاء الطمأنينة والهدوء إلى نفس المتعلم ، إضافة إلى منافع جمالية متعددة .
إن عطاء القلم للهدوء يكون بسبب ارتباط القلم بالتنفس. فعند الكتابة يوقف الإنسان تنفسه بشكل أوتوماتيكي. ويأخذ شهيقا من جديد عند التوقف عن الكتابة، أي في لحظة العودة للمحبرة للاستمداد من جديد.
توقف التنفس لحظة الخط إنما هو منح الحياة للحركة الخطية. وأن هذا التوقف هو حالة طبيعية تولد مع الإنسان منذ الطفولة.  فكلما أراد الطفل التركيز على عمل شيء صعب يعض لسانه بشكل عفوي. أي انه يحبس نفسه لبعض اللحظات.
 هناك فرق بين الخط بقلم القصب حسب تقاليد الخط العربي، وبين الكتابة بقلم الجاف. كما يكتب الكثير في عصرنا الحالي. قلم الماضي كان يجعل توقف النفس متعادلا ً ومتناغماً. وأقلام اليوم توقف التنفس عشوائياً.
 يتكلم الخطاط القديم دائما عن أهمية التحكم في التنفس، وأتفق الكل سابقا  بضرورة البطيء في الخط. وهذا يعني إطالة ما يسميه الخطاطون فترة ـ حبس النفس ـ أي التوقف عن التنفس حتى العودة للمحبرة. ولحظة العودة للمحبرة على قصر زمنها تسمح بالتنفس من جديد وأرواء الدماغ بالأوكسجين، والتفكير بالجزء القادم من الحرف. وبهذه الطريقة يمكن للإنسان التحكم ليس في تنفسه فقط إنما بكل جسمه.
 ولو نضيف خزان حبر للقصبة لن يمكن أنذاك التحكم بالتنفس بسهولة.  فأن القصبة تأخذ حبرا  قليلا  يعادل إمكانية الإنسان على إيقاف تنفسه.
كانت الكتابة ومنذ الزمن القديم تـُـعمل حسب ـ النسب الفاضلة ـ أي القياسات السليمة التي تعرف عليها الإنسان عبر دراسته للطبيعة في العلاقة النسبية بين الأجزاء الصغيرة والكبيرة.
كل حرف يتكون من عدة أجزاء وكل جزء مدروس بشكل دقيق، وبهذا يكون للحرف شكل متعارف عليه من بدايته إلى نهايته. وهكذا كان متعلم الخط  بالقلم يتحكم بسهولة في اطالة وتقصير تنفسه.
 وهذا يساعده في مواجهة ما يخيفه، فكما هو معروف أن تنفس الإنسان يقصر ويسرع عند مواجهته لشيء مخيف. والعكس هو الصحيح فأن إطالة النفس وإبطائه يجلب شعور بالهدوء والطمأنينة.
 إن أول ما يتعلمه الخطاط هو أن يكافح ضد غرائزه. عبر تمارين الخط. وعندما يختار عبارات ليخطها، فأنه بنفس الوقت يكافح أيضا ًضد أنانيته. فالعبارات التي يخطها  هي عبارات تتكلم عن الخير والجمال والكرم، بهدف خلق أجواء منيرة، سليمة ومسالمة.
قبل الدعوة للسلام لابد للإنسان أن يفرضه على ذاته أولاً. ففي داخلنا تكمن أنانية فردية، آتية من غريزة البقاء التي تولد مع الانسان، وعليه تهذيبها  وكذلك احيانا من سوء التربية داخل المجتمع، وهذه الأنانية هي العدو الأكثر شراسة.
روح العداء عند الإنسان هي اذن غريزة طبيعية، وهي كالحيوان البدائي في داخلنا. ودور التربية السليمة هو قيادة هذا الحيوان نحو التهذيب  ليصبح قوة إيجابية. بينما ان الأحداث السلبية  تطور روح العداء وتعمقها، وتوجهها ضد المجموعة البشرية التي تطوّق الفرد. فتخلق أجواء من التوتر.
 يمكن أن تـُوجَه هذه الغريزة نحو دروب سليمة بوسائل الثقافة وأحد هذه الوسائل هو فن الخط. فتصبح هذه الغريزة بالنتيجة طاقة بناء، وليست طاقة هدم.
                                        

                                 
السرعة في الزمن الحالي هي سمة العصر، لها فوائدها في بعض المجالات. ولكن لها مضارها ايضا. على سبيل المثال: استعمال القلم الجاف للكتابة والذي يسمح بالسرعة ، وسهولة الانسياب على الورق، فيه  ضرر لمن لم يتعلم  شكل الحروف مسبقا، وخصوصاً عند الأطفال. فلا يعرف الطفل في أي مكان سيتوقف عن الكتابة للتنفس من جديد وبالتالي يفقد سيطرته على التنفس بشكل سليم، على العكس من متعلمي الخط في الزمن القديم. كان التعليم انذاك يتناول الحركات المتناغمة للحروف وبالتالي يتناغم التنفس ايضا.
الكتابة الحديثة هي فوضى من الحركات. كل فرد يخلق شكل كتابته حسب الدافع الداخلي العفوي. ومع الزمن تصبح هذه الكتابة طريقته في التعبير. وهذه الفوضى في الكتابة لها تأثيرات سلبية على سلوك الإنسان. بينما كان تعليم الخط في الزمن الماضي يتم وفق قواعد سليمة ومدروسة.
الأقلام ذات الحبرالجاف تتطلب ضغطا على الورق،  بينما آلة القصب كانت تلامس الورقة برقه. ولعدم معرفة الطفل أين سيتوقف في كتابة الحرف  بالقلم الجاف، فأنه سوف يستمر في الكتابة بوقت أطول من قدرته، بسبب سيولة الحبر وسهولة الاستمرار، ويسبب هذا الاختلال إنهاكاً للدماغ  بسبب عدم وصول الأوكسجين إليه، لأن كل حركة طويلة هي قطع للنفس اكثر ما يمكن. وهذا قد يقود في النهاية الى ردود فعل سلبية وعنيفة لدى الطفل.
كان المتعلم للخط في الماضي يتعلم اولا طريقة الجلوس. ولابد ان يستند الرأس فوق العمود الفقري تماما. وكان قدماء الخطاطين ينصحون المبتدئين قبل الخط بوضع كتاب على رأسهم فأن سقط فأن ذلك دليل خطأ في الجلوس . وان هذا الخطأ له مردود سيئ للجسم، وينهك متعلم الكتابة. لابد للرأس الثقيل ان يوضع على العمود الفقري كما لو كنا وقوف، والا فأن من يحمل الرأس هو عضلات الرقبة، والتي سوف تتعب ان تحمل الرأس طيلة فترة الكتابة.
 بعد ذلك يتعلم المبتدئ كيفية مسك القلم، بثلاث اصابع ممدودة. وبأي اتجاه يأخذه منقارالقلم على الورقة، ومنقار القلم لابد أن يكون منحنيا بما يقارب ال 45 درجة  نسبة إلى الخط الأفقي للورقة.
وهذه الهندسية المبسطة تجعل من يتعلم الكتابة في علاقة مع المركز والمحور العمودي والخط الأفقي للكتابة على سطح الورقة. مما يعطي الفرد هياكل بناء خيالية في ذهنه، تعينه في التالي على بناء حياته داخل المجموعة البشرية المحيطة به.
 ولا يعني هذا أن تعاليم الخط هذه، هي تعاليم متجمدة ثابتة بل على العكس أنها تعطي السعادة للمتعلم عند هضمها وتجاوزها. فهو سوف يعرف أنذاك ما يمكن ان يتخطى من تعاليم وقوانين المجتمع.
إن قواعد الخط وضعت منذ مئات السنين ومن قبل أجيال متعددة.  ولكن كل جيل أضاف شيئاً جديداً. بعد معرفة وهضم ترِكة الأقدمين. فأن الحدود ما وضعت إلا لتخطيها نحو إبداع وابتكار جديد.
وهذا ما يعبر عنه بكلمات قليلة  ابراهيم بن العباس الصولي: ـ وربما طغى القلم فوصل منفصلا ً، وفصل متصلا ـ
لم يعط قلم القصب للمتعلم، تعلم الكتابة بشكل جيد فقط ، بل  يعطيه أيضا ًتعلم طرق العيش،  والكينونة في الحياة  والتغذي بالمباديء الاخلاقية.
منذ خمسة آلاف سنة وحتى منتصف القرن العشرين، كان التعليم يتم في آن واحد باتجاهين. الأول: يتناول المعنى كما في شكل الكتابة المصرية القديمة، أو الصوت كما في الألفباء. والاتجاه الثاني وهو ما يهمني هنا، كان يتضمن تعلم بناء شكل الحروف. كيف نرسم الحرف؟  من اين نبدأ وأين ننتهي؟
 عندما ولد القلم الجاف في منتصف القرن العشرين. أهمل الجانب الثاني من تعلم الكتابة. أي أهمل الفن في الكتابة أن صح القول. وهذه الظاهرة هي  ظاهرة عالمية. ويعتقد البعض أنها التطور، بينما بالنسبة لي أعتقد أن الإنسانية تراجعت وتخلفت في الكتابة. وأن السرعة في الكتابة وبأستمرارهي ضرر للفرد والمجموعة. ضرر متعدد الاتجاهات، منها النفسية ومنها الجمالية.
وقد يتساءل البعض عن الفائدة من هذا الكلام، أذ لا يمكن العودة للكتابة بالقصب في المدارس؟  ونحن في عصر الكتابة الإلكترونية! اعتقد انه يمكن في عصرنا الحالي الاستفادة من القلم كممارسة فنية كما الموسيقى. فالهدف هو التعرف على الجسم وعلى التنفس. والاستفادة من كل هذا في وجود اجتماعي سليم. فقبل أن نخط بشكل منتظم على الورق، لابد أن نخلق هذا الانتظام في داخلنا.
 وبالإضافة لتحسين الكتابة. فأننا  نتعلم تطويل النفس للهدوء. وفي خلال هذه العمليات أي تطويل النفس أو تقصيره، فأن الجسم  يّولد موادا في الذهن  تمنح السلام والهدوء للإنسان، أما فقدانها  فيدفعه نحو القلق والعنف. وهذا العنف  قد يوقظ الحيوان النائم في داخلنا. التمرين على الحروف المدروسة  يجعلنا نرسل إلى اللاوعي معلومات سليمة. إذ لابد من حفظ نسب الحروف وقياساتها على ظهر قلب. فنغذي عالمنا الفطري. إن العالم الفطري في داخلنا هو كالحجر الصلد، وبالتعلم ننحت هذا الحجر ونصقلة ليتحول الى الجمال. بدل ان نتحمل  ثقل شكله المبهم.

هنالك دائما تجاذب مستمر بين الحيوان الغريزي الكامن بداخلنا والإنسان الذي نريده. في بعض الظروف يتردد الإنسان في اتخاذ موقفه تجاه هذا الحيوان. فيصبح أسير  الغريزة، ويتحول إلى فرد سلبي في المجتمع.
هناك من يستطيع كبح جماح غريزته عبر الاختلاط بالآخرين ومعرفتهم وبالتالي محبتهم. والوصول إلى حقيقة جوهرية ألا وهي احترام الإنسان. احترام الحياة.
كما يعبر عن هذا الشاعر الكوفي والبة ابن الحباب ، في القرن الثامن:

أحسن من در ٍ ومرجان ِ آثار إنسان ٍ بإنسان
وفي العصر الأموي  يبالغ الشاعر الاحمير السعدي يأسه من الإنسان ويترك الغريزة تعبر في هذا المقطع الشعري. والذي لا يوجد أي تبرير له:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصّوت إنسان فكدت أطير

                            

              

               

تحيط القلم نصوص جميلة، كهذا النص حول إتقان الحروف  لخطاط مجهول:
ـ الخط يحتاج إلى سبع معانٍ: الخط المجرد بالتحقيق، والمحلى بالتحديق، والمجمل بالتحويق، والمزين بالتخريق، والمحسن بالتشقيق، والمجاد بالتدقيق، والمميز بالتفريق ـ
ثم يستمر بعد ذلك بشرح هذه الكلمات بنص جميل ومقفى.
 ويصف خطاط آخر مايستحق بالجودة في الخط:
ـ إذا اعتدلت أقسامه وطالت ألفه ولامه، استقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه ولم تشتبه راءه ونونه ـ
كل هذه التعاليم لتناغم الحروف وجمالها. والنصوص ذات المعاني الإنسانية التي كان الخطاطون يخطونها. جعلت منهم وجودا إيجابيا في المجتمع الإسلامي القديم. ولم يذكر لنا التاريخ حادثة إجرام واحدة ارتكبت من قبل خطاط. ولابد من التذكير أن أعداد الخطاطين في السابق ليست مثل اليوم فقد كان عددهم يحسب بالآلاف. كان الخطاطين يتفاخرون بحملهم القلم وليس السيف.

 نصوص قديمة بخصوص القلم توضح لنا كيف كان المعلم يلقن تلميذه على معرفة رهيفة  بالقلم:
ـ إن للقلم سنا ً أيمن وسنا ً أيسر، وعرضا ً، ووجها ً، وصدرا ً، وأنه يتعين على الكاتب معرفة كل منهما،  ليعطي كل واحد منهما حقه في الموضع الذي يقتضيه الحال ـ                                                 السرمدي
ويؤكد الخطاطون على أهمية تحضير القلم من قبل الشخص نفسه:
ـ إن جودت قلمك جودت خطك ، وأن أهملت قلمك أهملت خطك ـ
                                                   أمين الدين ياقوت الملكي
 وإبراهيم بن المحبس يلخص الموضوع بهذه العبارة:
ـ الخط كله القلم ـ

الكثير من المثقفين في التاريخ الإسلامي شهدوا على أهمية القلم وأفضليته على السيف ،على  أفضلية الثقافة ضد العنف. 
ـ القلم مجهز جنود الكلام، يخدم للإرادة، ولا يمل الاستزادة، يسكت قائما، وينطق سائرا. على ارض بياضها مظلم وسوادها مضيء ـ
                                                               ابن المعتز

ـ ما رأينا ضربة من بطل بحسام قطعت ألف قلم. بل رأينا مترجة من قلم بمداد نكست الف علم ـ                                        
                                                                        حسن  الحسيني

 

وإذا أمرّ على المهارق كفهُ بأنامل يحملن شختا ً مرهفا
مُتقاصرا ً، مُتطاولا ً، ومفصلا ً ومُوصلا ً ومُشتتا ً ومُؤلفا
ترك العُداة رواجفا ً احشاؤها وقلاعها قـُلعا ًهنالك رجفا
كالحية الرقشاء الا انه يستنزل الاروى اليه تلطفا
يرمي به قلما ً يمج لـُـعابه فيعود سيفا ً صارما ً ومثقفا ً
                                       طلحة بن عبد الله

قال القلم للسيف:

ـ انا آلة الحياة وأنت آلة الردى
أنت للرهب وأنا للرغب
انا ابن ماء السماء. وأليف الغدير وحليف الهواء
وأما أنت فأبن النار والدخان
 كم افنيت وأعدمت
وأرملت ويتمت
لعمرك مالسيف سيف الكمي بأخوف من قلم الكاتب ـ

                                                  ابن الرومي

 

  
حسن المسعود ـ باريس ـ نيسان 2007

لايجوز اعادة النشر دون موافقة الكاتب

 
لمواصلة الموضوع بشكل اوسع لابد من الرجوع الى هذين الكتابين

Désir d'envol
Hassan Massoudy
Edition Albin Michel – Paris

الكتاب

تأليف : حسن المسعود
يحتوي هذا الكتاب على 120 لوحة خطية. نصف بالاساليب القديمة ونصف بأسلوب حديث وبالالوان
كما يحتوي الكتاب على نصوص نظرية كثيرة عن الخط العربي الحديث باللغتين العربية والفرنسية
208 صفحة وبقياس 33 في 25 سنتمتر

   

Calligraphie Arabe Vivante
Hassan Massoudy
Edition Flammarion – Paris

الكتاب

تأليف حسن المسعود
يحتوي على دراسة عن الخط العربي القديم باساليبه المتعددة. وكيفية خطها وتحليل قواعدها الجمالية. مع اكثر من 200 صورة للمعالم المعمارية المزينة بالخطوط وكذلك صور خطوط في لوحات وكتب وحاجيات متعددة. اكثرها تنشر لأول مرة
كما يحتوي على نصوص نظرية عن الخط العربي باللغتين العربية والفرنسية ومنذ عام 1981 يعاد نشرهذا الكتاب بدون توقف
176 صفحة وبقياس 32 في 24 سنتمتر
 

الرجوع الى صفحة الاستقبال

الرجوع الى صفحة المقالات